تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 104 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 104

104 : تفسير الصفحة رقم 104 من القرآن الكريم

** إِنّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىَ نُوحٍ وَالنّبِيّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَعِيسَىَ وَأَيّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلّمَ اللّهُ مُوسَىَ تَكْلِيماً * رّسُلاً مّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجّةٌ بَعْدَ الرّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
قال محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة أو سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: قال سكين وعدي بن زيد: يامحمد ما نعلم أن الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى, فأنزل الله في ذلك من قولهما: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} إلى آخر الاَيات. وقال ابن جرير: حدثنا الحارث, حدثنا عبد العزيز, حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي, قال: أنزل الله {يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء} إلى قوله: {وقولهم على مريم بهتاناً عظيم} قال: فلما تلاها عليهم يعني على اليهود, وأخبرهم بأعمالهم الخبيثة, جحدوا كل ما أنزل الله وقالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء, ولا موسى ولا عيسى ولا على نبي من شيء, قال: فحل حبوته, وقال: ولا على أحد, فأنزل الله عز وجل {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء} وفي هذا الذي قاله محمد بن كعب القرظي نظر, فإن هذه الاَية التي في سورة الأنعام مكية, وهذه الاَية التي في سورة النساء مدنية, وهي رد عليهم لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء, قال الله تعالى: {فقد سألوا موسى أكبر من ذلك} ثم ذكر فضائحهم ومعايبهم وما كانوا عليه وما هم عليه الاَن من الكذب والافتراء, ثم ذكر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم, كما أوحى إلى غيره من الأنبياء المتقدمين, فقال: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} إلى قوله: {وآتينا داود زبور} والزبور اسم الكتاب الذي أوحاه الله إلى داود عليه السلام وسنذكر ترجمة كل واحد من هؤلاء الأنبياء عليهم من الله أفضل الصلاة والسلام, عند قصصهم من سورة الأنبياء إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان.
وقوله: {ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك} أي من قبل هذه الاَية, يعني في السور المكية وغيرها وهذه تسمية الأنبياء الذين نص الله على أسمائهم في القرآن وهم: آدم وإدريس ونوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وأيوب وشعيب وموسى وهارون ويونس وداود وسليمان وإلياس واليسع وزكريا ويحيى وعيسى, وكذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {ورسلاً لم نقصصهم عليك} أي خلقاً آخرين لم يذكروا في القرآن, وقد اختلف في عدة الأنبياء والمرسلين, والمشهور في ذلك حديث أبي ذر الطويل, وذلك فيما رواه ابن مردويه رحمه الله في تفسيره حيث قال: حدثنا إبراهيم بن محمد حدثنا جعفر بن محمد بن الحسن والحسين بن عبد الله بن يزيد, قالا: حدثنا إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني, حدثني أبي عن جدي, عن أبي إدريس الخولاني, عن أبي ذر, قال: يارسول الله, كم الأنبياء ؟ قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً». قلت: يارسول الله, كم الرسل منهم ؟ قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير». قلت يارسول الله, من كان أولهم ؟ قال: «آدم» قلت: يارسول الله, نبي مرسل ؟ قال: «نعم خلقه الله بيده, ثم نفخ فيه من روحه, ثم سواه قبيلاً» ثم قال: «يا أبا ذر, أربعة سريانيون: آدم وشيث ونوح وخنوخ وهو إدريس, وهو أول من خط بالقلم, وأربعة من العرب: هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر, وأول نبي من بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى, وأول النبيين آدم, وآخرهم نبيك» وقد روى هذا الحديث بطوله الحافظ أبو حاتم بن حبان البستي في كتابه الأنواع والتقاسيم, وقد وسمه بالصحة, وخالفه أبو الفرج بن الجوزي فذكر هذا الحديث في كتابه الموضوعات واتهم به إبراهيم بن هشام هذا, ولا شك أنه قد تكلم فيه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل من أجل هذا الحديث والله أعلم.
وقد روي هذا الحديث من وجه آخر عن صحابي آخر فقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف, حدثنا أبو المغيرة, حدثنا معان بن رفاعة عن علي بن يزيد, عن القاسم, عن أبي أمامة, قال: قلت: يانبي الله, كم الأنبياء ؟ قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً والرسل من ذلك ثلثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً» معان بن رفاعه السلامي ضعيف, وعلي بن يزيد ضعيف, والقاسم أبو عبد الرحمن ضعيف أيضاً. وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا أحمد بن إسحاق أبو عبد الله الجوهري البصري, حدثنا مكي بن إبراهيم, حدثنا موسى بن عبيدة الربذي عن يزيد الرقاشي, عن أنس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بعث الله ثمانية آلاف نبي: أربعة آلاف إلى بني إسرائيل, وأربعة آلاف إلى سائر الناس» وهذا أيضاً إسناد ضعيف, فيه الربذي ضعيف وشيخه الرقاشي أضعف منه والله أعلم.
قال أبو يعلى: حدثنا أبو الربيع, حدثنا محمد بن ثابت العبدي, حدثنا محمد بن خالد الأنصاري عن يزيد الرقاشي, عن أنس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان فيمن خلا من إخواني من الأنبياء ثمانية آلاف نبي, ثم كان عيسى بن مريم, ثم كنت أنا» وقد رويناه عن أنس من وجه آخر, فأخبرنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي, أخبرنا أبو الفضل بن عساكر, أنبأنا الإمام بكر القاسم بن أبي سعيد الصفار, أخبرتنا عمة أبي عائشة بنت أحمد بن منصور بن الصفار, أخبرنا الشريف أبو السنانك هبة الله بن أبي الصهباء محمد بن حيدر القرشي, حدثنا الإمام الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني, قال: أخبرنا الإمام أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي, حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة, حدثنا أحمد بن طارق, حدثنا مسلم بن خالد, حدثنا زياد بن سعد عن محمد بن المنكدر, عن صفوان بن سليم, عن أنس بن مالك, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بعثت على أثر ثمانية آلاف نبي, منهم أربعة آلاف نبي من بني إسرائيل» وهذا غريب من هذا الوجه, وإسناده لا بأس به, رجاله كلهم معرفون إلا أحمد بن طارق هذا, فإني لا أعرفه بعدالة ولا جرح, والله أعلم. وحديث أبي ذر الغفاري الطويل في عدد الأنبياء عليهم السلام. قال محمد بن حسين الاَجري: حدثنا أبو بكر جعفر بن محمد بن الفريابي إملاء في شهر رجب سنة سبع وتسعين ومائتين, حدثنا إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني, حدثنا أبي عن جده, عن أبي إدريس الخولاني, عن أبي ذر, قال: دخلت المسجد, فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده, فجلست إليه, فقلت: يارسول الله, إنك أمرتني بالصلاة. قال: «الصلاة خير موضوع, فاستكثر أو استقل» قال: قلت: يارسول الله, فأي الأعمال أفضل ؟ قال: «إيمان بالله وجهاد في سبيله». قلت: يارسول الله, فأي المؤمنين أفضل ؟ قال: «أحسنهم خلقاً». قلت: يارسول الله, فأي المسلمين أسلم ؟ قال: «من سلم الناس من لسانه ويده». قلت: يارسول الله, فأي الهجرة أفضل ؟ قال: «من هجر السيئات» قلت: يارسول الله أي الصلاة أفضل ؟ قال: «طول القنوت» فقلت: يارسول الله , فأي الصيام أفضل ؟ قال: «فرض مجزىء وعند الله أضعاف كثيرة» قلت: يارسول الله فأي الجهاد أفضل ؟ قال: «من عقر جواده وأهريق دمه». قلت: يارسول الله, فأي الرقاب أفضل ؟ قال: «أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها». قلت: يارسول الله, فأي الصدقة أفضل ؟ قال: «جهد من مقل وسر إلى فقير». قلت: يارسول الله, فأي آية ما أنزل عليك أعظم ؟ قال «آية الكرسي», ثم قال يا أبا ذر, وما السموات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة» قال: قلت: يارسول الله, كم الاَنبياء ؟ قال «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً». قال: قلت: يارسول الله, كم الرسل من ذلك ؟ قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير كثير طيب». قلت: فمن كان أولهم ؟ قال: «آدم» قلت: أنبي مرسل ؟ قال: «نعم, خلقه الله» بيده, ونفخ فيه من روحه, سواه قبيلا», ثم قال: «يا أبا ذر, أربعة سريانيون: آدم وشيث وخنوخ وهو إدريس, وهو أول من خط بقلم, ونوح, وأربعة من العرب: هود وشعيب وصالح ونبيك با أبا ذر, وأول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى, وأول الرسل آدم وآخرهم محمد» قال: قلت: يارسول الله, كم كتاب أنزله الله ؟ قال: «مائة كتاب وأربعة كتب, أنزل الله على شيث خمسين صحيفة, وعلى خنوخ ثلاثين صحيفة, وعلى إبراهيم عشر صحائف, وأنزل على موسى من قبل التوراة عشرة صحائف, وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان» قال: قلت: يارسول الله, ما كانت صحف إبراهيم ؟ قال «كانت كلها يا أيها الملك المسلط المبتلى المغرور إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض, ولكني بعثتك لترد عني دعوة المظلوم, فإني لا أردها ولو كانت من كافر, وكان فيها أمثال, وعلى العاقل أن يكون له ساعات: ساعة يناجي فيها ربه, وساعة يحاسب فيها نفسه, وساعة يفكر في صنع الله, وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب, وعلى العاقل أن لا يكون ضاغناً إلا لثلاث: تزود لمعاد, أو مرمة لمعاش, أو لذة في غير محرم, وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه, مقبلاً على شأنه: حافظاً للسانه, ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه». قال: قلت: يارسول الله, فما كانت صحف موسى ؟ قال «كانت عبراً كلها, عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح, عجبت لمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب, وعجبت لمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم يطمئن إليها, وعجبت لمن أيقن بالحساب غداً ثم هو لا يعمل». قال: قلت: يارسول الله, فهل في أيدينا شيء مما كان في أيدي إبراهيم وموسى, وما أنزل الله عليك ؟ قال «نعم اقرأ يا أبا ذر {قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى * بل تؤثرون الحياة الدنيا * والاَخرة خير وأبقى * إن هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى}». قال: قلت: يارسول الله, أوصني قال: أوصيك بتقوى الله فإنه رأس أمرك قال: قلت يا رسول الله زدني قال «عليك بتلاوة القرآن وذكر الله فإنه ذكر لك في السماء ونور لك في الأرض» قال: قلت: يارسول الله زدني. قال «إياك وكثرة الضحك, فإنه يميت القلب ويذهب بنور الوجه», قال: قلت: يارسول الله زدني, قال: «عليك بالجهاد فإنه رهبانية أمتي». قلت: زدني. قال «عليك بالصمت إلا من خير فإنه مطردة للشيطان, وعون لك على أمر دينك». قلت: زدني قال: «انظر إلى من هو تحتك, ولا تنظر إلى من هو فوقك, فإنه أجدر لك أن لا تزدري نعمة الله عليك». قلت: زدني. قال: «أحبب المساكين وجالسهم, فإنه أجدر أن لا تزدري نعمة الله عليك». قلت: زدني قال: «صل قرابتك وإن قطعوك». قلت: زدني. قال: «قل الحق وإن كان مراً» قلت: زدني. قال «لا تخف في الله لومة لائم». قلت: زدني. قال «يردك عن الناس ما تعرف من نفسك, ولا تجد عليهم فيما تحب, وكفى بك عيباً أن تعرف من الناس ما تجهل من نفسك, أو تجد عليهم فيما تحب», ثم ضرب بيده صدري فقال: «يا أبا ذر, لا عقل كالتدبير, ولا ورع كالكف, ولا حسب كحسن الخلق».
وروى الإمام أحمد عن أبي المغيرة, عن معان بن رفاعة, عن علي بن يزيد, عن القاسم, عن أبي أمامة أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم, فذكر أمر الصلاة والصيام والصدقة, وفضل آية الكرسي, ولا حول ولا قوة إلا بالله, وأفضل الشهداء, وأفضل الرقاب, ونبوة آدم وأنه مكلم, وعدد الأنبياء, والمرسلين كنحو ما تقدم.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد: وجدت في كتاب أبي يخطه: حدثني عبد المتعالي بن عبد الوهاب, حدثنا يحيى بن سعيد الأموي, حدثنا مجالد عن أبي الوداك, قال: قال أبو سعيد: هل تقول الخوارج بالدجال ؟ قال: قلت:لا , فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني خاتم ألف نبي أو أكثر, وما بعث نبي يتبع إلا وقد حذر أمته منه, وإني قد بين لي فيه ما لم يبين لأحد, وإنه أعور, وإن ربكم ليس بأعور, وعينه اليمنى عوراء جاحظة لا تخفى كأنها نخامة في حائط مجصص, وعينه اليسرى كأنها كوكب دري, معه من كل لسان, ومعه صورة الجنة خضراء يجري فيها الماء, وصورة النار سوداء تدخن», وقد رويناه في الجزء الذي فيه رواية أبي يعلى الموصلي عن يحيى بن معين: حدثنا مروان بن معاوية, حدثنا مجالد عن أبي الوداك, عن أبي سعيد, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أختم ألف ألف نبي أو أكثر, ما بعث الله من نبي إلى قومه إلا حذرهم الدجال», وذكر تمام الحديث, هذا لفظه بزيادة ألف وقد تكون مقحمة, والله أعلم.
وسياق رواية الإمام أحمد أثبت وأولى بالصحة, ورجال إسناد هذا الحديث لا بأس بهم, وقد روي هذا الحديث من طريق جابر بن عبد الله رضي الله عنه, قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عمرو بن علي, حدثنا يحيى بن سعيد, حدثنا مجالد عن الشعبي, عن جابر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لخاتم ألف نبي أو أكثر, وإنه ليس منهم نبي إلا وقد أنذر قومه الدجال, وإني قد بين لي ما لم يبين لأحد منهم, وإنه أعور, وإن ربكم ليس بأعور»
قوله: {وكلم الله موسى تكليم} وهذا تشريف لموسى عليه السلام بهذه الصفة, ولهذا يقال له: الكليم, وقد قال الحافظ أبو بكر بن مردوية: حدثنا أحمد بن محمد بن سليمان المالكي, حدثنا مسيح بن حاتم, حدثنا عبد الجبار بن عبد الله, قال: جاء رجل إلى أبي بكر بن عياش فقال: سمعت رجلاً يقرأ {وكلم الله موسى تكليم}, فقال أبو بكر: ما قرأ هذا إلا كافر, قرأت على الأعمش, وقرأ الأعمش على يحيى بن وثاب, وقرأ يحيى بن وثاب على أبي عبد الرحمن السلمي, وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي على علي بن أبي طالب, وقرأ علي بن أبي طالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم {وكلم الله موسى تكليم} وإنما اشتد غضب أبي بكر بن عياش رحمه الله على من قرأ كذلك, لأنه حرف لفظ القرآن ومعناه, وكان هذا من المعتزلة الذين ينكرون أن يكون الله كلم موسى عليه السلام أو يكلم أحداً من خلقه, كما رويناه عن بعض المعتزلة أنه قرأ على بعض المشايخ {وكلم الله موسى تكليم} فقال له: يا ابن اللخناء, كيف تصنع بقوله تعالى: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه} ؟ يعني أن هذا لا يحتمل التحريف, ولا التأويل, وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا أحمد بن الحسين بن بهرام, حدثنا محمد بن مرزوق, حدثنا هانىء بن يحيى عن الحسن بن أبي جعفر, عن قتادة, عن يحيى بن وثاب, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما كلم الله موسى كان يبصر دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء» وهذا حديث غريب, وإسناده لا يصح, وإذا صح موقوفاً كان جيداً, وقد روى الحاكم في مستدركه وابن مردويه من حديث حميد بن قيس الأعرج, عن عبد الله بن الحارث, عن ابن مسعود, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان على موسى يوم كلمه ربه جبة صوف, وكساء صوف, وسراويل صوف, ونعلان من جلد حمار غير ذكي».
وقال ابن مردويه بإسناده, عن جويبر, عن الضحاك, عن ابن عباس, قال: إن الله ناجى موسى بمائة ألف كلمة وأربعين ألف كلمة في ثلاثة أيام, وصايا كلها, فلما سمع موسى كلام الاَدميين مقتهم مما وقع في مسامعه من كلام الرب عز وجل, وهذا أيضاً إسناد ضعيف, فإن جويبر أضعف, والضحاك لم يدرك ابن عباس رضي الله عنهما. فأما الأثر الذي رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه وغيرهما من طريق الفضل بن عيسى الرقاشي, عن محمد بن المنكدر, عن جابر بن عبد الله أنه قال: لما كلم الله موسى يوم الطور, كلمه بغير الكلام الذي كلمه يوم ناداه, فقال له موسى: يارب هذا كلامك الذي كلمتني به, قال: لا ياموسى, إنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان, ولي قوة الألسنة كلها, وأنا أقوى من ذلك, فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل, قالوا: ياموسى, صف لنا كلام الرحمن. قال: لا أستطيعه. قالوا: فشبه لنا. قال: ألم تسمعوا إلى صوت الصواعق فإنه قريب منه وليس به. وهذا إسناد ضعيف, فإن الفضل الرقاشي هذا ضعيف بمرة.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري, عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث, عن جزء بن جابر الجثعمي, عن كعب, قال: إن الله لما كلم موسى بالألسنة كلها, فقال له موسى: يارب, هذا كلامك ؟ قال: لا, ولو كلمتك بكلامي لم تستقم له. قال: يارب, فهل من خلقك شيء يشبه كلامك ؟ قال: لا, وأشد خلقي شبهاً بكلامي أشد ما تسمعون من الصواعق, فهذا موقوف على كعب الأحبار, وهو يحكي عن الكتب المتقدمة المشتملة على أخبار بني إسرائيل وفيها الغث والسمين.
وقوله: {رسلاً مبشرين ومنذرين} أي يبشرون من أطاع ا لله واتبع رضوانه بالخيرات, وينذرون من خالف أمره وكذب رسله بالعقاب والعذاب, وقوله: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيم} أي أنه تعالى أنزل كتبه وأرسل رسله بالبشارة والنذارة, وبين ما يحبه ويرضاه مما يكرهه ويأباه, لئلا يبقى لمعتذر عذر, كما قال تعالى: {ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى}, وكذا قوله: {ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم} الاَية. وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أحد أغير من الله, من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن, ولا أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل, من أجل ذلك مدح نفسه, ولا أحد أحب إليه العذر من الله, من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين», وفي لفظ آخر «من أجل ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه». )

** لّـَكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَىَ بِاللّهِ شَهِيداً * إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ قَدْ ضَلّواْ ضَلاَلاَ بَعِيداً * إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاّ طَرِيقَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً * يَأَيّهَا النّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الرّسُولُ بِالْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنّ للّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً
لما تضمن قوله تعالى: {إنّا أوحينا إليك} إلى آخر السياق, إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم والرد على من أنكر نبوته من المشركين وأهل الكتاب, قال الله تعالى: {لكن الله يشهد بما أنزل إليك} أي وإن كفر به من كفر به ممن كذبك وخالفك, فالله يشهد لك بأنك رسوله الذي أنزل عليه الكتاب وهو القرآن العظيم الذي {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد}, ولهذا قال: {أنزله بعلمه} أي في علمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه من البينات والهدى والفرقان, وما يحبه الله ويرضاه, وما يكرهه ويأباه, وما فيه من العلم بالغيوب من الماضي والمستقبل, وما فيه من ذكر صفاته تعالى المقدسة التي لايعلمها نبي مرسل ولا ملك مقرب إلا أن يعلمه الله به, كما قال تعالى: {ولايحيطون بشيء من علمه إلاّ بما شاء} وقال: {ولا يحيطون به علم}.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا الحسن بن سهل الجعفري وخزز بن المبارك, قالا: حدثنا عمران بن عيينة, حدثنا عطاء بن السائب, قال: أقرأني أبو عبد الرحمن السلمي القرآن, وكان إذا قرأ عليه أحدنا القرآن قال: قد أخذت علم الله, فليس أحد اليوم أفضل منك إلا بعمل, ثم يقرأ قوله: {أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيد}, قوله: {والملائكة يشهدون} أي بصدق ما جاءك وأوحى اليك وأنزل عليك مع شهادة الله تعالى بذلك {وكفى بالله شهيد} قال محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة أو سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود, فقال لهم: «إني لأعلم والله إنكم لتعلمون أني رسول الله» فقالوا: ما نعلم ذلك. فأنزل الله عز وجل {لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه} الاَية.
وقوله: {إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالاً بعيد} أي كفروا في أنفسهم, فلم يتبعوا الحق, وسعوا في صد الناس عن اتباعه والاقتداء به, قد خرجوا عن الحق وضلوا عنه, وبعدوا منه بعداً عظيماً شاسعاً, ثم أخبر تعالى عن حكمه في الكافرين بآياته وكتابه ورسوله, الظالمين لأنفسهم بذلك وبالصد عن سبيله وارتكاب مآثمه وانتهاك محارمه بأنه لا يغفر لهم {ولا يهديهم طريق} أي سبيلاً إلى الخير {إلا طريق جهنم} وهذا استثناء منقطع {خالدين فيها أبد} الاَيه, ثم قال تعالى: {يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيراً لكم} أي قد جاءكم محمد صلوات الله وسلامه عليه بالهدى ودين الحق والبيان الشافي من الله عز وجل, فآمنوا بما جاءكم به واتبعوه, يكن خيراً لكم. ثم قال: {وإن تكفروا فإن لله ما في السموات والأرض} أي فهو غني عنكم وعن إيمانكم, ولا يتضرر بكفرانكم, كما قال تعالى: {وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد} وقال ههنا: {وكان الله عليم} أي بمن يستحق منكم الهداية فيهدية, وبمن يستحق الغواية فيغويه, {حكيم} أي في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.